(فصل: وكل مائع خرج من السبيلين نجس إلا المني)
لا بد من معرفة النجاسة أولا لأن ما خرج من السبيلين هو أحد أنواع النجاسة. ثم النجاسة لغة هي كل مستقذر، وفي الشرع عبارة عن كل عين حرم تناولها على الإطلاق مع إمكانه لا لحرمتها أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل، فقوله على الإطلاق احترز به عن النباتات السمية فإنه يباح منها القلييل دون الكثير، وقوله مع إمكانه احترز به عن الأحجار والأشياء الصلبة فإنه لا يمكن تناولها على الإطلاق أي أكلها، وقوله لا لخرمتها احترز به عن المحترم كالآدمي، وقوله أو استقذارها احترز به عن المخاط ونحوه وبقية ما ذكرنا في الحد احترز به عن التراب فإنه يضر بالبدن والعقل، وينبغي أن يزيد في الحد في حال الإختيار ليدخل في الحد الميتة فإنه يباح أكله عند الضرورة مع النجاسة في ذلك الوقت حتى إنه يجب عليه غسل فمه، إذا عرفت هذا فاعلم أن المنفصل عن باطن الحيوان نوعان: أحدهما ما ليس له اجتماع واستحالة في الباطن وإنما يرشح رشحا كاللعاب والعرق ونحوهما فله حكم الحيوان المترشَّحِ منه إن كان نجسا فنجس وإلا فطاهر، النوع الثاني ما له استحالة كالبول والعذرة والدم والقيء: فهذه الأشياء كلها نجسة من جميع الحيوانات المأكولة وغيرها، ولنا وجه أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران، وبه قاله الأصطخري والروياني وهو مذهب مالك وأحمد رضي الله عنهما وتمسكوا بأحاديث هي معارضة، وقد وقع الإجماع على نجاسة هذه الأشياء من غير المأكول، ويقال المأكول على غيره لأنه متغيرة مستحيلة مستقذرة، واحتج لنجاسة البول بحديث الأعرابي الذي بال في المسجد حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (بصب ذنوب من ماء عليه فصُبَّ) والذنُوب بفتح الذال: الدلو المملوء قال النووي: وفيه إثبات نجاسة بول الآدمي وهو مجمع عليه، ولا فرق بين بول الصغير والكبير بإجماع من يعتد بإجماعه: نعم يكفي في بول الصغير النضح، واحتج له بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام (مرَّ بقبرين فقال إنهما يعذبان: فكان أحدهما يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول) وفى رواية (لا يستنزه) وفي رواية (لا يستبرئ) وكلها صحيحة ومعناهن لا يجتنبه ويحترز منه. وأما نجاسة الغائط فحجته مع الإجماع قوله صلى الله عليه وسلم لعمار (إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمذي والقيء). رواه الإمام أحمد وخرجه الدارقطني والبزار ويدخل في قول الشيخ المذي لأنه خارج من أحد السبيلين، وحجو نجاسته حديث علي رضي الله عنه في قوله: (كنت رجلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرتُ المقداد فسأله فقال: يغسل ذكره ويتوضأ) رواه مسلم، والمذي أبيض رقيق لزج يخرج بلا شهوة عند الملاعبة والنظر. ويدخل في كلام الشيخ أيضا الودِّي وهو أبيض كدرٍ ثخين يخرج عقب البول من مخرج البول ولا فرق في نجاسة ما خرج من اليسبيلين بين أن يكون معتادا كالبول والغائط ولا كالدم والقيح نعم يستثنى من ذلك الدود والحصاة وكل متصلب لم تحله المعدة فهو متنجس لا نجس، وعنه احترز الشيخ بقوله مائع، وأما المني فهل نجس أم طاهر؟ ينظر إن كان من الآدمي ففيه خلاف بين الأئمة وفى مذهبنا طاهر، والذى ذهب إليه مالك وأبو حنيفة أنه نجس وحجتهما رواية الغسل ولفظها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة فى ذلك الثوب) ومذهب الشافعى وأصحاب الحديث وذهب إليه خِلَقٌ منهم علي بن أبى طالب وسعد بن أبى وقاص وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين أنه طاهر، وهو أصح الروايتين من الإمام أحمد، وبه قال داود، ودليل هؤلاء رواية الفرك، ولفظهما قول عائشة رضي الله عنها (لقد رأيتُنِي أَفْرُكُ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم المني فركا فيصلى فيه) ولو كان نجسا لم يكف فركه كالدم وغيره، ورواية الغسل محمولة على الندب واختيار النظافة جمعا بين الأدلة ولا فرق في ذلك بين مني الرجل والمرأة على المذهب (*) وأما مني غير الآدمي فإن كان مني الكلب أو خنزير أو فرع أحدهما فهو نجس بلا خلاف كأصلهما، وأما ما عداهما من بقية الحيوانات ففيه خلاف الراجح عند الرافعى أنه نجس لأنه مستحيل فى الباطن كالدم، واستثنى منه مني الآدمي تكريما له، والراجح عند النووى أنه طاهر وقال إنه الأصح عند المحققين والأكثرين لأنه أصل حيوان طاهر فكان طاهرا كالآدمي، وفى وجه أنه نجس من غير المأكول طاهر منه كاللبن والله أعلم. قال:
(وغسل جميع الأبوال والأوراث واجب إلا بولَ الصبي الذى لم يأكل الطعام فإنه يطهر برشِّ الماء عليه)
حجة الوجوب حديث الأعرابى وغيره، وأما كيفية الغسل فالنجاسة تارة تكون عينية أي تشاهد بالعين وتارة تكون حكمية أى حكمنا على المحل بنجاسته من غير أن ترى عين النجاسة فإن كانت النجاسة عينية فلا بد مع إزالة العين من محاولة إزالة ما وجد منها من طعم ولون وريح فإن بقي طعم النجاسة لم يطهر المحل المتنجس لأن بقاء الطعم يدل على بقاء النجاسة وصورته فيما إذا تنجس فمه وإن بقي الأثر مع الرئحة لم يطهر أيضا وإن بقي لون النجاسة وحده وهو غير عسر الإزالة لم يطهر وإن عسر كدم الحيض يصيب الثوب. وربما لا تزول بعد المبالغة، فالصحيح أنه يطهر للعسر وإن بقيت الرائحة وحدها وهي عسرة الإزالة كرائحة الخمر مثلا فيطهر المحل أيضا على الأظهر ثم الباقى من اللون والرائحة مع العسر طاهر على الصحيح، وقيل نجس معفو عنه ولا يشترط فى حصول الطهارة عصر الثوب على الراجح، ثم شرط الطهارة أن يسكب الماء على محل النجس فلو غمس الثوب ونحوه فى طست فيه ماء دون القلتين فالصحيح الذى قاله جمهور الأصحاب أنه لا يطهر لأنه بوصوله إلى الماء تنجس لقلته ويكفى أن يكون الماء غامرا للنجاسة على الصحيح وقيل يشترط أن يكون سبعة أصناف البول. وأما النجاسة الحكمية فيشترط فيها الغسل أيضا (*) والحاصل أن الواجب فى إزالة النجاسة غسله المعتاد بحيث ينزل الماء بعد الحث والتحامل صافيا إلا فى بول الصبى الذى لم يطعم ولم يشرب سوى اللبن فيكفى فيه الرش ولا بد فى الرش من إصابة الماء جميع موضع البول وأن يغلب الماء على البول ولا يشترط فى ذلك السيلان قطعا والسيلان والتقاطر هو الفارق بين الغسل والرش (*) واعلم أنه لا يشترط فى الغسل القصد كما لو صب الماء على ثوب لا يقصد فإنه يطهر وكذا إذا أصابه مطر أو سيل. وادعى بعضهم الإجماع على ذلك لكن ابن شريح والقفال من أصحابنا اشترطا النية فى غسل النجاسة كالحدث وقد مر الفرق. وقول الشيخ إلا بول الصبى احترز به عن الصبية فإنه لا يكفى فى غسل بولها النضح بل يتعين الغسل على المذهب ودليل الفرق حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (أُتِيَ بصبي يرضع فبال في حجره فدعا بماء فصبه عليه ولم يغسله) وفي رواية (فلم يزد على أن نضح بالماء) وفي رواية فرشه، وفي رواية، فنضحه عليه ولم يغسله. وكلها صحيحة وفى رواية الترميذى (ينضح من بول الغلام ويرش من بول الجارية) وفرق بينهما من جهة المعنى بوجوه، منها أن بول الجارية يترشش فاحتيج فيه إلى الغسل بخلاف بول الصبى فإنه يقع فى محل واحد، ومنها أن بول الجارية ثخين أصفر منتن يلصق بالمحل بخلاف بول الصبى، قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وفرق بينهما بوجوده منها ما هو ركيك جدا لا يستحق أن يذكر، وأقوى ما قيل أن النفوس أعلق بالذكور من الإناث فيكثر حمل الصبى فناسب التخفيف بالنضح دفعا للعسر وهذا المعنى مفقود فى الإناث فجرى الغسل فيهن على القياس والله أعلم (*) قلت وفيه نظر من جهة أنه لو كان كذلك لوقع الفرق بين الرجل والمرأة فى الغسل فيرش من بولهما بالنسبة إلى المرأة والله أعلم، وقول الشيخ لم يأكل الطعام أي مالم يطعم ما يستقل به كالخبز ونحوه قاله ابن الرفعة وقال النووى فى شرح مسلم النضح إنما يجرى مادام الصبى يقتصر على الرضاع وأما إذا أكل الطعام على جهة التغذية فإنه يجب الغسل بلا خلاف والله أعلم (*) قال:
(ولا يعفى عن شيء من النجاسات إلا اليسيرُ من الدم والقيح وما لا نفس له سائلة إذا وقع فى الإناء ومات فيه فإنه لا يُنَجِّسُهُ) القليل من الدم والقيح معفو عنه فى الثوب والبدن وتصح الصلاة معه، وظاهر إطلاق الشيخ يقتضى أنه لا فرق بين أن يكون منه أو من غيره، ومسألة العفو عن النجاسات العفو عنها بذكره فى محلها وعو عند ذكر شروط الصلاة، وتأتى فى كلام الشيخ هناك إن شاء الله تعالى، وأما الميتة التى {لا نفس لها سائلة} أي لا دم لها يسيل كالذباب والبعوض والعقارب والخنافس والوزغ على ما صححه النووى دون الحيات والضفادع ليس من ذلك إذا وقعت فى إناء فيه مائع سواء كان ماء أو غيره من الأدهان كالزيت والسمن أو غيره كالطعام وماتت فيه فهل تنجسه فيه خلاف والمذهب عدم النجيس لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا وقع الذباب فى شراب أحدكم فليغمسه كلَّهُ ثم لينزعه فإن فى أحد جناحيه داء وفى الآخر شفاء) رواه البخارى وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان وأنه يتقى بجناحه الذى فيه الداء، ووجه الإستدلال أن الغسم قد يفضى إلى الموت لا سيما إذا كان الطعام حارا فلو كان ينجس لم يأمر به، وأيضا فصون الأوانى عن هذه الحيوانات فيه عسر ومشقة فيعفى عن تنجيسها لذلك، وقيل تنجسه لأنه ميتة كسائر النجاسات قال ابن المنذر، ولا أعلم أحدا قاله هذا القول غير الشافعى وفى قول آخر إن كان مما تعم به البلوى كالذباب ونحوه فلا ينجس وإن لم تعم كالخنافس والعقارب نجست وبهذا جزم القفال وهو متجه قوى لأن محل النص وهو الذباب فيه معنيان مشقة الإحتراز، وعدم الدم السائل وهى علة مركبة فإذا فقد أحدهما انعدمت العلة إذ العلة المركبة تنعدم بعدم أحد جزأيها وهنا فقدت مشقة الأحتراز.
واعلم أن محل الخلاف فيما إذا لم يتغير المائع فإن تغير بكثرة الميتة نجسته على الأصح ومحل الخلاف أيضا فيما إذا لم ينشأ فى المائع فإن نشأ فيه كدود الخل ونحوه فإنه لا ينجسه بلا خلاف قال الشيخان فى الرافعى والروضة ويحل أكله معه لا منفرد ذكره النووى فى باب الأطعمة ثم محل الخلاف أيضا فيما إذا وقعت الميتة التى لا نفس لها سائلة بنفسها فى المائع أما إذا طُرِحَت فإنه يضر جزم به الرافعى فى الشرح الصغير وبه أجاب فى الحاوى الصغير (*) واعلم أن كل رطب فى معنى الإناء حتى لو كان ثوبا رطبا أو فاكهة فهي كالمائع فى ذلك (*) واعلم أيضا أن النجاسة التى لا يدركها الطرف أي لا تشاهد بالبصر لقلتها كنقطة البول وما يعلق برجل الذبابة من النجاسة حكمه فى عندم التنجس حكم الميتة التى لا نفس لها سائلة على الراجح عند النووى لأنه تعتذر الإحتراز عن ذلك فأشبه دم البراغث وقال الرافعى إنها تنجس ويستثنى مع ذلك مسائل ذكرناها فى كتاب الطهارة. والله أعلم. (*) قال:
(والحيوان كلُّه طاهرٌ إلا الكلب والخنزير وما يتولد منهما أو من أحدهما) الأصل فى الحيوان الطهارة لأنها مخلوقة لمنافع العباد ولا يحصل الإنتفاع الكامل إلا بالطهارة واستمر مالك رضي الله عنه على ذلك واستثنى الشافعى ومن نحا نحوه الكلب والخنزير وفرع أحدهما واحتج له بمفهوم حديث الهرة وإنها ليست بنجسة، وهو حديث حسن صحيح وبقوله صلى الله عليه وسلم (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات أولاهن بالتراب) وجه الدلالة أن الطهور معناه المطَهَّرُ والتطهير لا يكون إلا عن حدث أو نجس ولا حدثَ على الإناء فتعين النجس، وأما نجاسة الخنزير فاحتج لنجاسته بأنه أسوأ حالا من الكلب لأنه لا يجوز الإنتفاع به وهذا غير مُسْلَمٍ لأن الحشرات كذلك وهي طاهرة ونقل ابن المنذر الإجماع على نجاسته وفيه نظر لأنه حكى عن مالك وأحمد طهارته ولهذا قال النووى إن دلالة نجاسته ضعيفة واحتج الماوردى بقوله تعالى {أو لحم خنزير فإنه رجس} والمراد جملة الخنزير لأن لحمه دخل فى عموم الميتة، وأما ما تولد منهما لأنهما أصله أو من أحدهما بين حيوان طاهر فنجس تغليبا للنجاسة وكلام الشيخ يشمل طهارة بقية الحيوانات حتى الدود المتولد من النجاسة وهو كذلك وفى وجه أنه نجس كأصله فاله الرافعى وهو ساقط والله أعلم. قال:
(والميتة كلها نجسة إلا السمكَ والجرادَ وابن آدم): الميتات كلها نجسة لقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} وتحريم ما لا حرمة له ولا ضرورة في كل من مات أكله يدل على نجاسته لأن الشيء إنما يحر إما لحرمته أو لضرره، أو نجاسته. والميتة: كل من مات حُتِفَ أنفه واختل فيه شرط من شروط التذكية كذبيحة المجوسى والمحرم وما ذبح بعظم أو نحوه وكذا ذبح ما لا يؤكل. وضابطه أن تقول الميتة ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية، ويستثنى من الميتات السمك والجراد. أما السمك فلقوله عليه الصلاة والسلام فى البحر: (هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته) حديث صحيح، وأما الجراد فلقوله صلى الله عليه وسلم (أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ) رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف نعم رواه البيهقى موقوفا على عمر رضي الله عنه وقال إنه صحيح وحكمه حكم المرفوع، ويستثنى الآدمى أيضا فإنه لا ينجس بالموت على الراجح مسلما كان أو كافرا لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بنى آدم} وقضية التكريم أنْ لا يحكم بنجاسته، وقال عليه الصلاة والسلام (لا تُنَجِّسُوا موتاكم فإن المؤمن لا يَنْجُسُ حَيًّا ولا ميتا) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، وقال الحافظ ضياء الدين المقدسى إسناده على شرط الشيخين، وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وهو جنب (سبحان الله إن المؤمن لا ينجس) وهو يعم المسلمَ والذمِّيَّ، وقيل ينجس بالموت لأنه حيوان طاهر فى الحياة غير مأكول بعد الموت فينجس كغيره، واستثنى أيضا الجنين الذى يوجد ميتا عند ذبح أمه فإنه طاهر حلال، وكذا الصيد أيضا إذا مات بالضغطة فإنه يحل فى أصح القولين وكذا البعير الناد إذا مات بالسهم فى غير المنحر فإنه يحل والجواب أن هذه ذكاة شرعية (*). قال:
(ويغسل الإناء من ولوغ الكلب والخنزير سبع مرات إحداهن بالتراب ويغسل من سائر النجاسات مرة واحدة تأتى عليه والثلاث أفضل): أما الكلب فلقوله صلى الله عليه وسلم (إذا ولغ الكلب فى إناء أحدكم فليرِقه ثم لْيغسلهُ سبع مرات) رواه مسلم، وفى رواية أخرى له (طَهُوْرُ إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) وفى رواية له (فاغسلوه سبع مرات وعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ) والولوغ فى اللغة الشرب بأطراف اللسان، وجه الدلالة أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالغسل وظهاره الوجوب، وقوله صلى الله عليه وسلم (طهور) بدل عن التطهير، والطهارة تكون عن حدث وعن نجس ولا حدث هنا فتعين النجس. فإن قيل المراد هنا الطهارة اللغوية (*) فالجواب أن حملَ اللفظ على حقيقة الشرعية مقدَّمٌ عَلى الحقيقة اللغوية مع أنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ لبيان الشريعات وفى الحديث دلالة على نجاسة ما ولغ فيه الكلب وإن كان طعاما مائعا حرم أكله لأن إراقته إضاعة مال فلو كان طاهرا لم يؤمر بإراقته مع أنا قد نُهِيْنَا عن إضاعة المال ثم لا فرق بين أن يتنجس بولوغه أو بوله أو دمه أو عرقه أو شعره أو غير ذلك من جميع أجزائه وفضلاته فإنه يغسل سبعا إحداهن بالتراب. قال النووى فى الروضة، وفى وجه شاذ أنه يكفى فى غسل ما سوى الولوغ مرة كغسل سائر النجاسات، وهذا الوجه قال فى شرح المهذب أنه متجه وقوي من حيث الدليل لأن الأمر بالغسل سبعا إنما كان لينفرهم عن مؤاكلة الكلب، وهل يغسَل من الخنزير كالكلب أم لا؟ قولان: الجديد وبه قطع بعضهم نعم لأنه نجس العين فكان كالكلب بل أولى لأنه لا يجوز اقتناؤه بحال، وقال فى القديم إنه يغسل مرة كسائر النجاسات لأن التغليظ فى الكلاب إنما ورد قطعا لهم عما يعتادونه من مخالطتها وزجرا كالحد فى الخمر، وهذا القول رجحه النووى فى شرح المهذب ولفظه الراجح من حيث الدليل أنه يكفى غسله واحدة بلا تراب وبه قطع أكثر العلماء الذين قالوا بنجاسة الخنزير، وهذا هو المختار لأن الأصل عدم الوجوب حتى يرد الشرع لا سيما فى هذه المسألة المبنية على التعبد وذكر مثل هذا فى شرح الوسيط أيضا. وهل يقوم الصابون والأشنان مقام التراب؟ فيه أقوال: أحدها نعم كما يقوم غير الحجر مقامه فى الإستنجاء وكما يقوم غير الشب وقرظ والدباغ مقامه وهذا ما صححه النووى فى كتابه رؤوس المسائل والأظهر فى الرافعى والروضة وشرح المهذب أنه لا يقوم لأنه طهارة متعلقة بالتراب فلا يقوم غيره مقامه كالتيمم والقول الثالث إن وجد التراب لم يقم وإلا قام، وقيل يقوم فيما يفسده التراب كالثياب دون الأوانى وشرط التراب أن يكون طاهرا فلا يكفى النجس على الراجح كالتيمم: نعم الأرض الترابية يكفى فيها الماء على الراجح إذ لا معنى لتعفير التراب ولا يكفى فى استعمال التراب ذرّه على المحل بل لا بد من مزجه بالماء ليصل التراب بواسطة المزج إلى جميع أجزاء المحل النجس.
(فرع) هل يكفى الرمل الناعم قال الأسنائى أدخل الأصحاب الرمل الناعم فى اسم التراب وجوزوا التيمم به قال النووى فى فتاويه لو سُحِقَ الرمل وتيمم به جاز. ومقتضاه إجزاؤه فى التَّعْفِيْرِ لأن التراب إما للإستظهار أو للجمع بين نوعي الطهور أو للتعبد بإطلاق الإسم وكل ذلك موجود هنا. والله أعلم.
(فرع) لو ولغ فى الإناء كلاب أو كلب مرات ففيه خلاف: الراجح يكفى سبع ولو وقعت نجاسة أخرى فى الإناء الذى ولغ فيه الكلب كفى سبع ولو كانت نجاسة الكلب عينية فلم يزل إلا بثلاث عسلات مثلا حُسِبت واحدة على الصحيح ولو ولغ فى شيء نجَّسَه فأصاب ذلك شيئا آخر نجسه ووجب غسل ذلك الآخر سبعا ولو ولغ فى طعام جامد ألقى ما أصاب به وما حوله وبقي الباقى على طهارته. ولو أدخل كلب رأسه فى إناء فيه ماء ولم يعلم هل ولغ فيه أمل فإن أخرج فمه يابسا لم يُحْكَمْ بالنجاسة وكذا إن أخرج رطبا على الراجح لأن الأصل عدم الولوغ وبقاء الماء على الطهارة ورطوبة فمه يحتمل أنه من لعابه فلا يطرح الأصل بالشك والله أعلم، وقول الشيخ {إحداهن بالتراب} يقتضى الإكتفاء فى التعغير بغير الأولى والأخرة قال فى أصل الروضة، ويستحب أن يكون التراب فى غير السابعة والأولى أولى. قال الأسنائى وجواز التعفير فى غير الأولى والأخرة مردود دليلا ونقلا: أما الدليل فلأن الروايات أربع أولاهن وهي فى مسلم والثانية والسابعة بالتراب رواهما أبو داود وهي معنى رواية مسلم وعفروه الثامنة بالتراب وسميت ثامنة باعتبار استعمال التراب، والرواية الثالثة أولاهن أو آخرهن بالتراب رواها الدارقطنى بإسناد صحيح كما قاله فى شرح المهذب، والرابعة إحداهن قاله فى شرح المهذب ولم تثبت. وقال فى فتاويه إنها ثابتة فعلى تقدير ثبوتها هي مطلقة وقيدت بالأولى أو الأخرى فلا يجوز العدول إلى غيرهما لاتفاق القيدين على نفيها. والله أعلم (*)
وأما النقل فقد نص الشافعى على تعيين الأولى أو الأخيرة فى البويطى وكذا فى الأم وأخذ بهذا النص جماعة من الأصحاب منهم الزبيدى والمرعشى وابن جابر فثبت أن هذا مذهب الشافعى وأنه الصواب من جهة الدليل والنقل فتعين الأخذ به والله أعلم. وقول الشيخ <ويغسل من سائر النجاسات مرة>: قد مر دليله وكيفية الغسل، وقوله <والثلاث أفضل> لأن ذل إزالة نجس فيستحب التثليث فيها كالأحداث ولأن ذلك مستحب عند الشك فى النجاسة فعند تحققها أول هذا فيما إذا زالت النجاسة بالغسلة الواحدة على ما مر. أما إذا لم تزل إلا بالثلاثة وجبت الثلاثة ويستحب بعد ذلك ثانية وثالثة والله أعلم.
(مسألة) الماء الذى يغسل به النجاسة ويعبر عنه بالغسالة هل هو طاهر أم نجس أم كيف الحال ينظر إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة فنجسة قطعا وإن لم تتغير فإن كانت قلتين قال الرافعى فطاهرة بلا خلاف. قال النووى طاهرة ومطهرة على المذهب. وإن كانت دون القلتين ففيه خلاف والجديد الأظهر أن حكمها حكم المحل بعد الغسل إن كان نجسا فنجسة وإن كان طاهرا فاطاهرة غير مطهرة. فلو وقع من غسالة الكلب شيء على شيء: فإن كان من الغسلة الأولى غُسل ما وقع عليه سِتًّا. ويغفر إن لم يكن التراب فى الأولى وإن وقع من السابعة شيء لم يغسله ولو لم يتغير الغسالة. ولكن زاد وزنها فطريقان: أحدهما القطع بالنجاسة والثانية على الخلاف. وهذا كله فى غسالة استعملت فى واجب الطهارة. أما الماء المستعمل فى مندوبها كالثانية والثالثة فطاهر قطعا ومطهرعلى المذهب. والله أعلم. (*)
(وإذا تخللت الخمرة بنفسها طهرت، وإن خُلِّلَتْ بطرح شيء فيها لم تطهر): اعلم أن تطهير الأشياء تارة يكون بالغسل، وقد مر وقد يكون بالإستحالة. ومعنى الإستحالة انقلاب الشيء من صفة إلى أخرى. فإذا تخللت الخمرة أي انقلبت بنفسها سواء كانت محترمة أم غير محترمة طهرت لأن النجاسة والتحريم إنما كانا لأجل الإسكار، وقد زال ولأن العصير لا يتخلل إلا بعد التخمُّر. فلو لم نقل بالطهارة لتعذر اتخاذ الخَل. قال النووى فى شرح مسلم: وأجمعوا على أنها إذا انقلبت بنفسها خلًّا طهرت، وحُكي عن سحنو أنه لا تطهر: فإن صح عنه فهو محجوج بإجماع من قبله. وإن خللت بطرح شيء فيها من بصل أو خميرة أو غير ذلك لم تطهر ولا يطهر هذا الخَلُّ بعده أبدا لا بغسل ولا بغيره واحتج لذلك بأنه عليه الصلاة والسلام: (سئل عن الخمر يتخذ خلا فقال: (لا)) رواه مسلم، واحتج لتحريم التخليل أيضا بأن طلحة رضي الله عنه أسلم وعنده خمر لأيتام فقال: يا رسول الله أُخَلِّلُهَا قال (لا: أهرقها) ولأنه استعجل الخل بفعل محرم فحرم كما لو قتل مورثه لاستعجال الإرث فإنه لا يرثه معاملة له بنقيض مقصودة وإن خُلِّلَت لا بطرح شيء فيها بأن نقلت من شمس إلى ظل أو عكسه فإنها تطهر على الراجح وكذا لو فتح الوعاء حتى دخل الهواء، والفرق بين هذا وبين ما إذا طرح فيها شيء أو وقع بنفسه أن الواقع ينجس بالخمر فإذا استحالت خلا تنجست بالعين الحاصلة فيها ولا يطهر النجس إلا بالماء. والله أعلم. (*)
(فائدة): الخمر اسم للمسكر من ماء العنب عند الأكثرين ولا يطلق على غيره إلا مجازا كذا ذكره الرافعى فى باب حد الخمر. ومقتضاه أن النبيذ لا يطهر بالتخلل وبه صرح القاضى أبو الطيب ونقله عنه ابن الرفعة وأقره على ذلك لكن ذكره البغوى أنه لو ألقى الماء فى عصير العنب حالة عصره لم يضره بلا خلاف البصل ونحوه. وما ذكره يدل على طهارة النبيذ بطريق الأولى والله أعلم، وقد ألحق بعضهم بالخمر العلقة إذا استحالت فصارت آدميا والبيضة المذرة إذا صارت فرخا ودم الظبية إذا صارت مسكا والميتة إذا صارت دودا وفى الإلحاق نظر والله أعلم(*) قال:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق