(فَصْلٌ (*) والإستنجاءُ واجب من البول والغائط) احتج له بقوله صلى الله عليه وسلم (وَلْيَسْتَنجِ يثلاثة أحجار) وهو أمر وظاهره الوجوب، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه ثلاثةُ أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئُ عنه) رواه أبو داود وأحمد والدارقطنى، وابن ماجه بإسناد جسن صحيح، وقوله (من البول والغائط) يؤخذ منه أنه لا يجب من الريح بل قال الأصحاب لا يستجب. بل قال الجرجانى أنه مكروه. قال الشيخ نصر أنه بدعة ويأثم به قال النووى فى شرح المهذب: أما قوله بدعة فصحيح، وأما الإثم فلا إلا أن يعتقد وجوبه مع علمه بعدمه. وقال ابن الرفعة إذا كان المحل رطبا ينبغى أن يجىء فى وجوب الإستنجاء منه خلاف بناء على نجاسة دخان النجاسة، كما قيل بمثله فى تنجس الثوب الذى يصيبه وهو رطب ثم قال: وقد يجاب بأنه لا يزيد على الباقي على المحل بعد الإستجمار.
(والأفضل أن يستجمر بالأحجار، ثم يُتْبِعُهَا بالماء ويجوز أن يقتصر على الماء أو على ثلاثة أحجار يُنْقِى بهن المحل، وإذا أراد الإقتصار على أحدهما فالماء أفضل) الأفضل فى الإستنجاء أن يجمع بين الماء والحجر أو ما فى معناه لأن الله تعالى أثنى على أهل قباء بذلك، وأنزل فيهم قوله تعالى وهو أصدق القائلين (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين) وفيه من طريق المعنى أن العين تزول بالحجر، والأثر يزول بالماء فلا يحتاج إلى ملاطخة النجاسة، ولهذا يقدم الحجر أولا. ثم إن قضية التعليل أنه لا يشترط طهارة الحجر، وبه صرح العجلى ونقله عن الغزالى (*) واعلم أن الحديث ضعفوه. ورواه البزار بإسناد ضعيف ولفظه (فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا نُتْبِعُ الحِجَارَةَ المَاءَ) وأنكر النووى هذه الرواية فى شرح المهذب، فقال كذا رواها الفقهاء فى كتبهم وليس له أصل فى كتب الحديث بل المذكور فيه (كنا نستنجى بالماء) وليس فيها مع الحجر كذا رواه جماعة منه الإمام أحمد، وابن حزيمة، ولو اقتصر على الماء أجزأ لأنه يزيل العين والأثر وهو الأفضل عند الإقتصار على أحدهما ويجوز أن يقتصر على ثلاثة أحجار، أو على حجر له ثلاثة أحرف، والواجب ثلاث مسحات فإن حصل الإنقاء بهما وإلا وجبت الزيادة إلى الإنقاء. ويستحب الإيتار (*) واعلم أن كل ما هو فى معنى الحجر يجوز الإستنجاء به، وله شروط: أحدها لأت يكون طاهرا، فلو استنجى بنجس تعين الماء بعده على الصحيح. الشرط الثانى أن يكون ما يستنجى به قالعا للنجاسة، منشفا فلا يجزىء الزجاج ولا القصب، ولا التراب المتنائرة ويجوز الصلب. فلو يستنجى بما لا يقلع لم يجزه ولو استنجى برطب من حجر أو غيره لم يجزه على الصحيح: الشرط الثالث أن لا يكون محترما، فلا يجوز الإستنجاء يمطعوم كالحبز والعظم ولا بجزء من كيده ويد غيره، ولا يجزء حيوان متصل يه كذنب البعير لأنه محترم وإذا يستنجى بمحترم عصى ولا يجزيه على الصحيح نعم يجوز الحجر بعده بشرط أن لا ينتقل النجاسة، وأما الجلد فالأظهر أنه إن كان مدبوغا جاز الإستنجاء به وإلا فلا. ثم يشترط مع ذلك أن لا يجف الخارج فإن جف تعين الماء لأنه لا يمكن إزالته إلا بذلك. قال:
(وَيَجْتَنِبُ استقبال القبلة وستدبارها فى الصحراء) إذا أراد قضاء الحاجة فى الصحراء حرُمَ عليه الإستقبال والإستدبار إذا لم يستتر بشيء سترة معتبرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أتيتم الغائط فلا يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها ببول وبلا غائط ولكن شرقوا أو غربوا) رواه الشيخان نهى عن ذلك وظاهره التحريم، واختلف فى علة ذلك، فقيل لأن الصحراء لا يخلو عن مصل من ملك أو جني أو إنسي، فربما وقع بصره على فرجه فيتأذى به. قالى النووى فى شرح التنبيه هذا التعليل ضعيف والتعليل الصحيح ما ذكره القاضى حسين والبغوى والرويانى وغيرهم أن جهة القبلة معظمة فوجب صيانتها فى الصحراء، ورُخِّصَ فى البنيان للمشقة. والله أعلم. (قلت) وَقَوَّى هَذَا التَّعْلِيْلَ الشخُ تقي الدين بن دقيق العيد، واحتج له بحديث سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنه قلا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول (إذا أتى أحدكم البول فليكرم قبلة الله عز وجل فلا يستقبل القبلة) قال، وهذا ظاهر قوي فى التعليل بما ذكرناه والله أعلم. قال النووى إن كان بين يديه ساتر مرتفع قدر ثلثي ذراع وقرب منه على ثلاثة أذرع جاز الإستقبال سواء كان فى البنيان أو الصحراء هذا هو الصحيح، ومنهم من جزم فى الصحراء مطلقا، قاله فى شرح المهذب والله أعلم. وقوله (فى الصحراء) احترز بها عن غيرها، فلا يحرم استقبال القبلة واستدبارها فى البنيان. قال ابن عمر رضي الله عنهما، (إرتقيت على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلا بيت المقدس). وفى رواية البخارى، (فرأيته مستدبر القبلة مستقبل الشام). والله أعلم. قال:
(والبول فى الماء الراكد) تقدير كلام الشيخ، ويجتنب البول فى الماء الراكد، وقد عد الرافعى عدم البول فيه من الآدب، وتبعه فى الروضة، واحتج لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولنَّ أحدكم فى الماء الدائم). وفى رواية (الراكد). قال الرافعى: وهذا المنع يشتمل القليل والكثير، لما فىه من الإستقذار، والنهي فى القليل أشد، لما فيه من تنَجُّسِ الماء، وفى الليل أشد، لما قيل للجن فى الليل فلا ينبغى أن يبال فيه، ولا يغتسل فيه، خوفا من آفة تصيبه منهم. هذا كله فى الراكد وأما الماء الجارى، فقال النووى فى شرح المهذب: قال جماعة إن كان قليلا كره وإن كان كثر فلا، وفيه نظر، وينبغى أن يحرم البول فى القليل قطعا لأن فيه إتلافا عليه وعلى غيره، وأما الكثير فلأولى اجتنابه لكن جزم ابن رفعة بالكراهة فى الماء الكثير الجارى ليلا لأجل الجان والله أعلم. قال:
(وتحت الشجرة المُثْمِرَةِ) أي ويجتنب البول تحت الشجرة المثمرة، والغائط أولى، والحكمة فى ذلك حتى لا تنجس الثمرة فتغسل، أو تعافها الأنفس، والمراد بالثمرة التى من شأنها أن تثمر، قاله النووى فى شرح المهذب ولهذا تكون الكراهة فى غير وقت الثمرة أخف. قال:
(وفى الطريق) أي ويجتنب البول فى الطريق، والغائط أولى لقوله صلى الله عليه وسلم: (إتقوا اللعانين! قالو: وما اللعانان؟ يا رسول الله! قال: الذى يتخلَّى فى طريق الناس أو فى ظلهم) رواه مسلم. قال:
(والثقب) أي ويجتنب أن يبول فى ثقب، وهو ما استدار، ويعتبر عن بالبخش، لأنه عليه الصلاة والسلام (نهى أن يبول فى الحجر لأنه مساكن الجن) رواه أبو داود والنسائى، وقال الحاكم صحيح على شروط الشيخين. قال:
(والظِّلِّ) أي يجتنب البول، والغائط أولى فى ظل الناس لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز فى الموارد وقارعة الطريق والظِّلِّ) رواه أبو داود، والمراد قيل المواضع التى يرد إليه الناس، وقيل طريق الماء، وقارعة الطريق أعلاه، وقيل صدره وقيل ما برز منه، ومواضع الشمس فى الشتاء كمواضع الظل فى الصيف، ويحرم البول على القبر كما يحرم الجلوس عليه، وكذا يحرم البول فى المسجد، وإن كان فى إناء على الراجح المفتى به، ويكره البول قائما إلا لعذر، لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم فعله لعذر. قال:
(ولا يتكلم على البول والغائط) أي ندبا، قال أبو سعيد رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفي عورتيهما يتحدثان فإن الله تعالى يمقت على ذلك) رواه أبو داود، والمقت أشد البغض، والحديث مكروه، ولم يفض إلى التحريم كما فى قوله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق) وفى معنى الكلام رد السلام، وتشميت العاطس والتحميد، فلو عطس حمد الله تعالى بقلبه ولا يحرك لسانه، قال المحب الطبرى: وينبغى أن لا يأكل ولا يشرب، وينبغى أن لا ينظر ما يخرج منه، ولا إلى فرجه، ولا إلى السماء، ولا يعبث بيده، ويكره إطالة القعود على الخلاء، ويكره أن يكون معه شيء فيه إسم الله تعالى، كالخاتم والدراهم، وكذا ما كان فيه قرآن، وألحق باسم الله تعالى اسم رسول اللهه تعظيما له، (كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل الخلاء وضع خاتمه لأن كان عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه الترميذى، وقال حسن صحيح، وقال الحاكم هو على شرط الشيخين (*) واعلم أن كل اسم معظم ملحق بما ذكرنا فى النزع صرح به أمام الحرمين. وتبعه ابن رفعة فيدخل فيه أسماء جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال:
(ولا يَستقبلُ الشمسَ والقمر ولا يستدبرُهَا) استقبال الشمس والقمر في حال قضاء الحاجة مكروه، سواء الصحراء والبنيان لأنهما من آيات الله تعالى الباهرة وفيه حديث، وهل يكره استدبارهما، قال النووي في شرح المهذب: الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور أن لا يكره، لكن جزم الرافعي في التذنيب أنه يكره كالاستقبال، ووافقه النووي عليه في مختصر التذنيب، ثم إن النووي خالف الأمرين في شرح الوسيط، فقال: لم يذكر الشافعي والأكثرون أن قاضي الحاجة يترك استقبال الشمس والقمر، والمختار أنه مباح فعله وتركه سواء، وقال فى التحقيق: إن الكراهة لا أصل لها. والله أعلم.
(فرع) قال فى التنبيه: ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض يعني عن عورته لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وهو ندب، قال ابن الرفعة: وكونه ندبا فيه نظر لأن الصحيح أن كشف العورة في الخلوة بلا حاجة حرام لأن الله تعالى أحق أن يستحيا منه، ولا حاجة قبل الدنو، وما بحثه ابن الرفعة خرجه النووي في شرح التنبيه على ذلك، لكنه قال في شرح المهذب: إن هذا مستحب بالاتفاق وليس بواجب صرح به أبو حامد وابن الصباغ والمتولي وغيره والله أعلم. قال الماوردي: ويستحب إذا فرغ أن يسيل ثوبه قبل انتصابه قائما، قال النووي في شرح المهذب: وما قاله حسن إذا لم يخف تنجيس ثوبه فإن خاف رفعه قدر حاجته. ومن آداب قضاء الحاجة أن لا يبول في مهب الريح، وأن تعتمد على رجله اليسرى وقدمها عند محل البول، وأن يهيئ أحجار الاستجمار قبل جلوسه، وأن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة إلى في الميض، وأن يقول عند الدخول بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، وعند الفراغ: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافني، وأن يبعد عن الناس، وأن يتخذ موضعا لينا للبول، وأن ينضح فرجه وسراويله بعد الاستنجاء دفعا للوسواس ولو غلب على ظنه زوال النجاسة، ثم شم من يديه ريحا، فهل يدل على البقاء النجاسة في المحل كاليد؟ الأصح لا، والله أعلم. قال:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق